فصل: ذكر ملك نور الدين قلعة بانياس من الفرنج أيضاً:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر انهزام نور الدين محمود من الفرنج:

في هذه السنة انهزم نور الدين محمود بن زنكي من الفرنج، تحت حصن الأكراد، وهي الوقعة المعروفة بالبقيعة، وسببها أن نور الدين جمع عساكره دخل بلاد الفرنج ونزل في البقيعة تحت حصن الأكراد، محاصراً له عازما على قصد طرابلس ومحاصرتها، فبينما الناس يوماً في خيامهم، وسط النهار، لم يرعهم إلا ظهور صلبان الفرنج من وراء الجبل الذي عليه حصن الأكراد، وذلك أن الفرنج اجتمعوا واتفق رأيهم على كبسة المسلمين نهاراً، فإنهم يكونوا آمنين، فركبوا من وقتهم، ولم يتوقفوا حتى يجمعوا عساكرهم، وساروا مجدين، فلم يشعر بذلك المسلمين إلا وقد قربوا منهم، فأرادوا منعهم، فلم يطيقوا ذلك، فأرسلوا إلى نور الدين يعرفونه الحال، فرهقهم الفرنج بالحملة، فلم يثبت المسلمون، وعادوا يطلبون معسكر المسلمين، والفرنج في ظهورهم، فوصلوا معاً إلى العسكر النوري، فلم يتمكن المسلمون من ركوب الخيل، وأخذ السلاح، إلا وقد خالطوهم، فأكثروا القتل والأسر.
وكان أشدهم على المسلمين الدوقس الرومي، فإنه كان قد خرج من بلاده إلى الساحل في جمع كثير من الروم، فقاتلوا محتسبين في زعمهم، فلم يبقوا على أحد، وقصدوا خيمة نور الدين وقد ركب فيها فرسه ونجا بنفسه، ولسرعته ركب الفرس والشبحة في رجله، فنزل إنسان كردي قطعها، فنجا نور الدين، وقتل الكردي، فأحسن نور الدين إلى مخلفيه، ووقف عليهم الوقوف.
ونزل نور الدين على بحيرة قدس بالقرب من حمص، وبينه وبين المعركة أربعة فراسخ، وتلاحق به من سلم من العسكر، وقال له بعضهم ليس من الرأي أن تقيم هاهنا، فإن الفرنج ربما حملهم الطمع على المجيء إلينا، فنؤخذ ونحن على هذه الحال؛ فوبخه وأسكته، وقال: إذا كان معي ألف فارس لقيتهم ولا أبالي بهم، ووالله لا أستظل بسقف حتى آخذ بثأري وثأر الإسلام؛ ثم أرسل إلى حلب ودمشق، وأحضر الأموال والثياب والخيام والسلاح والخيل، فأعطى اللباس عوض ما أخذ منهم جميعه بقولهم، فعاد العسكر كأن لم تصبه هزيمة، وكل من قتل أعطى أقطاعه لأولاده.
وأما الفرنج فإنهم كانوا عازمين على قصد حمص بعد الهزيمة لأنها أقرب البلاد إليهم، فلما بلغهم نزول نور الدين بينها وبينهم قالوا: لم يفعل هذا إلا وعنده قوة يمنعنا بها.
ولما رأى أصحاب نور الدين كثرة خرجه قال له بعضهم: إن لك في بلادك إدرارات وصدقات كثيرة على الفقهاء والفقراء والصوفية والقراء وغيرهم، فلو استعنت بها في هذا الوقت لكان أصلح؛ فغضب من ذلك وقال: والله إني لا أرجو النصر إلا بأولئك فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم؛ كيف أقطع صلات قوم يدافعون عني، وأنا نائم على فراشي، بسهام لا تخطئ، وأصرفها إلى من لا يقاتل عني إلا إذا رآني بسهام قد تصيب وقد تخطئ، وهؤلاء القوم لهم نصيب في بيت المال كيف يحل لي أن أعطيه غيرهم؟ ثم إن الفرنج راسلوا نور الدين يطلبون منه الصلح، فلم يجبهم، وتركوا عند حصن الأكراد من يحميه وعادوا إلى بلادهم.

.ذكر إجلاء بني أسد من العراق:

في هذه السنة أمر الخليفة المستنجد بالله بإهلاك بني أسد أهل الحلة المزيدية، لما ظهر من فسادهم، ولما كان في نفس الخليفة منهم من مساعدتهم السلطان محمداً لما حصر بغداد، فأمر يزدن بن قماج بقتالهم وإجلائهم عن البلاد، وكانوا منبسطين في البطائح، فلا يقدر عليهم، فتوجه يزدن إليهم، وجمع عساكر كثيرة من راجل وفارس، وأرسل إلى ابن معروف مقدم المنتفق، وهو بأرض البصرة، فجاء في خلق كثير فحصرهم وسد عليهم الماء، وصابرهم مدة، فأرسل الخليفة إلى يزدن يعتب عليه ويعجزه وينسبه إلى موافقتهم في التشيع، وكان يزدن يتشيع، فجد هو وابن معروف في قتالهم والتضييق عليهم، وسد مسالكهم في الماء، فاستسلموا حينئذ، فقتل منهم أربعة آلاف قتيل، ونادى فيمن بقي: من وجد بعد هذا في المزيدية فقد حل دمه؛ فتفرقوا في البلاد، ولم يبق منهم في العراق من يعرف، وسلمت بطائحهم وبلادهم إلى ابن معروف.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة وقع في بغداد حريق في باب درب فراشا إلى مشرعة الصباغين من الجانبين.
وفيها، في رجب، توفي سديد الدولة أبو عبد الله مجمد بن عبد الكريم بن إبراهيم بن عبد الكريم المعروف بابن الأنباري، كاتب الإنشاء بديوان الخليفة، وكان فاضلاً أديباً ذا تقدم كثير عند الخلفاء والسلاطين، وخدم من سنة ثلاثين وخمسمائة إلى الآن في ديوان الخلافة، وعاش حتى قارب تسعين سنة.
وتوفي في رمضان هبة الله بن الفضل بن عبد العزيز بن محمد أبو القاسم المتوثي، سمع الحديث؛ وهو من الشعراء المشهورين، إلا أنه كثير الهجو، ومن شعره:
يا من هجرت ولا تبالي ** هل ترجع دولة الوصال

هل أطمع يا عذاب قلبي ** أن ينعم في هواك بالي

الطرف كما عهدت بالي ** والجسم كما ترين بال

ما ضرك أن تعلليني ** في الوصل بموعد المحال

أهواك وأنت حظ غيري ** يا قاتلتي فما احتيالي

وهي أكثر من هذا. ثم دخلت:

.سنة تسع وخمسين وخمسمائة:

.ذكر مسير شيركوه وعساكر نور الدين إلى ديار مصر وعودهم عنها:

في هذه السنة، في جمادى الأولى، سير نور الدين محمود بن زنكي عسكراً كثيراً إلى مصر، وجعل عليهم الأمير أسد الدين شيركوه بن شاذي، وهو مقدم عسكره، وأكبر أمراء دولته، وأشجعهم، وسنذكر سنة أربع وستين سبب اتصاله بنور الدين وعلو شأنه عنده إن شاء الله تعالى.
وكان سبب إرسال هذا الجيش أن شاور وزير العاضد لدين الله العلوي، صاحب مصر، نازعه في الوزارة ضرغام، وغلب عليها، فهرب شاور منه إلى الشام، ملتجئاً إلى نور الدين ومستجيراً به، فأكرم مثواه، وأحسن إليه، وأنعم عليه، وكان وصوله في ربيع الأول من السنة، وطلب منه إرسال العساكر معه إلى مصر ليعود إلى منصبه ويكون لنور الدين ثلث دخل البلاد بعد إقطاعات العسكر، ويكون شيركوه مقيماً بعساكره في مصر، ويتصرف هو بأمر نور الدين واختياره؛ فبقي نور الدين يقدم إلى هذا العرض رجلاً ويؤخر أخرى، فتارة يحمله رعاية لقصد شاور بابه، وطلب الزيادة من الملك والتقوي على الفرنج، وتارة يمنعه خطر الطريق، وأن الفرنج فيه؛ وتخوف أن شاور إن استقرت قاعدته ربما لا يفي.
ثم قوى عزمه على إرسال الجيوش، فتقدم بتجهيزها وإزالة عللها، وكان هوى أسد الدين في ذلك، وعنده من الشجاعة وقوة النفس ما لا يبالي بمخافة، فتجهز، وساروا جميعاً وشاور في صحبتهم، في جمادى الأولى من سنة تسع وخمسين، وتقدم نور الدين إلى شيركوه أن يعيد شاور إلى منصبه، وينتقم له ممن نازعه فيه.
وسار نور الدين إلى طرف بلاد الفرنج مما يلي دمشق بعساكره ليمنع الفرنج من التعرض لأسد الدين ومن معه، فكان قصارى الفرنج حفظ بلادهم من نور الدين، ووصل أسد الدين ومن معه من العساكر إلى مدينة بلبيس، فخرج إليهم ناصر الدين أخو ضرغام بعسكر المصريين ولقيهم، فانهزم وعاد إلى القاهرة مهزوماً.
ووصل أسد الدين فنزل على القاهرة أواخر جمادى الآخرة، فخرج ضرغام من القاهرة سلخ الشهر فقتل عند مشهد السيدة نفيسة، وبقي يومين، ثم حمل ودفن بالقرافة، وقتل أخوه فارس المسلمين، وخلع عن شاور مستهل رجب، وأعيد إلى الوزارة، وتمكن منها، وأقام أسد الدين بظاهر القاهرة، فغدر به شاور، وعاد كما كان قرره لنور الدين من البلاد المصرية، ولأسد الدين أيضاً، وأرسل إليه يأمره بالعود إلى الشام، فأعاد الجواب بالامتناع، وطلب ما كان قد استقر بينهم، فلم يجبه شاور إليه، فلما رأى ذلك أرسل نوابه فتسلموا مدينة بلبيس، وحكم على البلاد الشرقية، فأرسل شاور إلى الفرنج يستمدهم ويخوفهم من نور الدين إن ملك مصر.
وكان الفرنج قد أيقنوا بالهلاك إن تم ملكه لها، فلما أرسل شاور يطلب منهم أن يساعدوه على إخراج أسد الدين من البلاد جاءهم فرج لم يحتسبوه، وسارعوا إلى تلبية دعوته ونصرته وطمعوا في ملك الديار المصرية، وكان قد بذل لهم مالاً على المسير إليه، وتجهزوا وساروا، فلما بلغ نور الدين ذلك سار بعساكره إلى أطراف بلادهم ليمتنعوا عن المسير، فلم يمنعهم ذلك لعلمهم أن الخطر في مقامهم، إذا ملك أسد الدين مصر، أشد، فتركوا في بلادهم من يحفظها، وسار ملك القدس في الباقين إلى مصر.
وكان قد وصل إلى الساحل جمع كثير من الفرنج في البحر لزيارة البيت المقدس، فاستعان بهم الفرنج الساحلية، فأعانوهم، فسار بعضهم معهم، وأقام بعضهم في البلاد لحفظها، فلما قارب الفرنج مصر فارقها أسد الدين، وقصد مدينة بلبيس، فأقام بها هو وعسكره، وجعلها له ظهراً يتحصن به، فاجتمعت العساكر المصرية والفرنج، ونازلوا أسد الدين شيركوه بمدينة بلبيس، وحصروه بها ثلاثة أشهر، وهو ممتنع بها مع أن سورها قصير جداً، وليس لها خندق، ولا فصيل يحميها، وهو يغاديهم القتال ويراوحهم، فلم يبلغوا منه غرضاً، ولا نالوا منه شيئاً.
فبينما هم كذلك إذ أتاهم الخبر بهزيمة الفرنج على حارم وملك نور الدين حارم ومسيره إلى بانياس، على ما نذكره عن شاء الله تعالى،فحينئذ سقط في أيديهم، وأرادوا العودة إلى بلادهم، ليحفظوها، فراسلوا أسد الدين في الصلح والعد إلى الشام، ومفارقة مصر، وتسليم ما بيده منها إلى المصريين، فأجابهم إلى ذلك لأنه لم يعلم ما فعله نور الدين بالشام بالفرنج، ولأن الأقوات والذخائر قلت عليهن وخرج من بلبيس في ذي الحجة.
فحدثني من رأى أسد الدين حين خرج من بلبيس قال: أخرج أصحابه بين يديه، وبقي في آخرهم وبيده لت من حديد يحمي ساقتهم، والمسلمون والفرنج ينظرون إليه. قال: فأتاه فرنجي من الغرباء الذين خرجوا من البحر، فقال له: أما تخاف أن يغدر بك هؤلاء المصريون والفرنج، وقد أحاطوا بك وبأصحابك، ولا يبقى لكم بقية؟ فقال شيركوه: يا ليتهم علوه حتى كنت ترى ما أفعله؛ كنت والله أضع السيف، فلا يقتل منا رجل حتى يقتل منهم رجالاً، وحينئذ يقصدهم الملك العادل نور الدين، وقد ضعفوا وفني شجعانهم، فنملك بلادهم ويهلك من بقي منهم، والله لو أطاعني هؤلاء لخرجت إليكم من أول يوم، ولكنهم امتنعوا.
فصلب على وجهه، وقال: كنا نعجب من فرنج هذه البلاد ومبالغتهم في صفتك وخوفهم منك، والآن فقد عذرناهم؛ ثم رجع عنه.
وسار شيركوه إلى الشام، فوصل سالماً، وكان الفرنج قد وضعوا له على مضيق في الطريق رصداً ليأخذوه أو ينالوا منه ظفراً، فعلم بهم فعاد عن ذلك الطريق، ففيه يقول عمارة التميمي:
أخذتم على الإفرنج كل ثنية ** وقلتم لأيدي الخيل مري على مري

لئن نصبوا في البر جسراً فإنكم ** عبرتم ببحر من حديد على الجسر

ولفظة مري في أخر البيت الأول اسم ملك الفرنج.

.ذكر هزيمة الفرنج وفتح حارم:

في هذه السنة، في شهر رمضان، فتح نور الدين محمود زنكي قلعة حارم من الفرنج؛ وسبب ذلك أن نور الدين لما عاد منهزماً من البقيعة، تحت حصن الأكراد، كما ذكرناه من قبل، فرق الأموال والسلاح، وغير ذلك من الآلات على ما تقدم، فعاد العسكر كأنهم لم يصابوا وأخذوا في الاستعداد للجهاد والأخذ بثأره.
واتفق مسير بعض الفرنج مع ملكهم في مصر، كما ذكرناه، فأراد أن يقصد بلادهم ليعودوا عن مصر،فأرسل إلى أخيه قطب الدين مودود، صاحب الموصل وديار الجزيرة، وإلى فخر الدين قرا أرسلان، صاحب حصن كيفا، وإلى نجم الدين ألبي، صاحب ماردين، وغيرهم من أصحاب الأطراف يستنجدهم؛ فأما قطب الدين فإنه جمع عسكره وسار مجداً، وفي مقدمته زين الدين علي أمير جيشه؛ وأما فخر الدين، صاحب الحصن، فبلغني عنه أنه قال له ندماؤه وخواصه: على أي شيء عزمت؟ فقال: فقال: على القعود، فإن نور الدين قد تحشف من كثرة الصوم والصلاة، وهو يلقي نفسه والناس معه في المهالك، فكلهم وافقه على هذا الرأي، فلما كان الغد أمر بالتجهز للغزاة، فقال له أولئك: ما عدا مما بدا؟ فارقناك أمس على حالة، فنرى اليوم ضدها؟ فقال: إن نور الدين قد سلك معي طريقاً إن لم أنجده خرج أهل بلادي عن طاعتي، واخرجوا البلاد عن يدي، فإنه قد كاتب زهادها وعبادها والمنقطعين عن الدنيا، فلم يذكر لهم ما لقي المسلمون من الفرنج وما نالهم من القتل والأسر، ويستمد نهم الدعاء، ويطلب أن يحثوا المسلمين على الغزاة فقد قعد كل واحد من اولئك، ومعه أصحابه وأتباعه، وهم يقرؤون كتب نور الدين، ويبكون ويلعنونني، ويدعون علي، فلا بد من المسير إليه؛ ثم تجهز وسار بنفسه.
وأما نجم الدين فإنه سير عسكراً، فلما اجتمعت العساكر سار نحو حارم فحصرها ونصب عليها المجانيق وتابع الزحف إليها، فاجتمع من بقي بالساحل من الفرنج، فجاؤوا في حدهم وحديدهم، وملوكهم وفرسانهم، وقسيسهم ورهبانهم، وأقبلوا إليه من كل حدب ينسلون، وكان المقدم عليهم البرنس بيمند، صاحب أنطاكية، وقمص، صاحب طرابلس وأعمالها، وابن جوسلين، وهو من مشاهير الفرنج، والدوك، وهو مقدم كبير من الروم، وجمعوا الفارس والراجل، فلما قاربوه رحل عن حارم إلى أرتاح طمعاً أن يتبعوه فيتمكن منهم لبعدهم عن بلادهم إذا لقوه، فساروا، فنزلوا على غمر ثم علموا عجزهم عن لقائه، فعادوا إلى حارم، فلما عادوا تبعهم نور الدين في أبطال المسلمين على تعبئة الحرب.
فلما تقاربوا اصطفوا للقتال، فبدأ الفرنج بالحملة على ميمنة المسلمين، وفيها عسكر حلب وصاحب الحصن، فانهزم المسلمون فيها، وتبعهم الفرنج، فقيل كانت تلك الهزيمة من الميمنة على اتفاق ورأي دبروه، وهو أن يتبعهم الفرنج فيبعدوا عن راجلهم، فيميل عليهم من بقي من المسلمين بالسيوف فيقتلوهم، فإذا عاد فرسانهم لم يلقوا راجلاً يلجأون إليه، ولا وزراً يعتمدون عليه، ويعود المنهزمون في أثارهم، فيأخذهم المسلمون من بين أيديهم ومن خلفهم، وعن أيمانهم وعن شمائلهم، فكان الأمر على ما دبروه: فإن الفرنج لما تبعوا المنهزمين عطف زين الدين علي في عسكر الموصل على راجل الفرنج فأفناهم قتلاً وأسراً، وعاد خيالتهم، ولم يمعنوا في الطلب خوفاً على راجلهم، فعاد المنهزمون في آثارهم، فلما وصل الفرنج رأوا رجالهم قتلى وأسرى، فسقط في أيديهم، ورأوا أنهم قد هلكوا وبقوا في الوسط قد أحدق بهم المسلمون من كل جانب، فاشتدت الحرب، وقامت على ساق، وكثر القتل في الفرنج، وتمت عليهم الهزيمة، فعدل حينئذ المسلمون من القتل إلى الأسر، فأسروا ما لا يحد، وفي جملة الأسرى صاحب أنطاكية والقمص، صاحب طرابلس، وكان شيطان الفرنج، وأشدهم شكيمة على المسلمين، والدوك مقدم الروم، وابن جوسلين، وكانت عدة القتلى تزيد على عشرة آلاف قتيل.
وأشار المسلمون على نور الدين بالمسير إلى أنطاكية وتملكها لخلوها من حام يحميها ومقاتل يذب عنها، فلم يفعلن وقال: أما المدينة فأمرها سهل، وأما القلعة فمنيعة، وربما سلموها إلى ملك الروم لأن صاحبها ابن أخيه ومجاوره بيمند أحب إلي من مجاورة صاحب قسطنطينية؛ وبث السرايا في تلك الأعمال فنهبوها وأسروا أهلها وقتلوهم، ثم إنه فادى بيمند البرنس، صاحب أنطاكية، بمال جزيل وأسرى من المسلمين كثيرة أطلقهم.

.ذكر ملك نور الدين قلعة بانياس من الفرنج أيضاً:

في ذي الحجة من هذه السنة فتح نور الدين محمود قلعة بانياس، وهي بالقرب من دمشق، وكانت بيد الفرنج من سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة، ولما فتح حارم أذن لعسكر الموصل وديار بكر بالعود إلى بلادهم، وأظهر أنه يريد طبرية، فجعل من بقي من الفرنج همتهم حفظها وتقويتها، فسار محمود إلى بانياس لعلمه بقلة من فيها من الحماة الممانعين عنها، ونازلها، وضيق عليها وقاتلها، وكان في جملة عسكره أخوه نصرة الدين أمير أميران، فأصابه سهم فأذهب إحدى عينيه، فلما رآه نور الدين قال له: لو كشف لك عن الآجر الذي أعد لك لتمنيت ذهاب الأخرى، وجد في حصارها، فسمع الفرنج، فجمعوا، فلم تتكامل عدتهم، حتى فتحها؛ على أن الفرنج كانوا قد ضعفوا بقتل رجالهم بحارم وأسرهم فملك القلعة، وملأها ذخائر وعدة ورجالاً وشاطر الفرنج في أعمال طبرية، وقرروا له على الأعمال التي لم يشاطرهم عليها مالاً في كل سنة.
ووصل خبر ملك حارم وحصر بانياس إلى الفرنج بمصر، فصالحوا شيركوه، وعادوا ليدركوا بانياس، فلم يصلوا إلا وقد ملكها، ولما عاد منها إلى دمشق كان بيده خاتم بفص ياقوت من أحسن الجوهر، وكان يسمى الجبل لكبره وحسنه، فسقط من يده في شعاري بانياس، وهي كثيرة الأشجار ملتفة الأغصان، فلما أبعد عن المكان الذي ضاع فيه علم به، فأعاد بعض أصحابه في طلبه ودلهم على المكان الذي كان آخر عهده به فيه، وقال: أظن هناك سقط؛ فعادوا إليه فوجدوه، فقال بعض الشعراء الشاميين أظنه ابن منير يمدحه ويهنئه بهذه الغزاة ويذكر الجبل الياقوت:
إن يمتر الشكاك فيك بأنك ال ** مهدي مطفي جمرة الدجال

فلعودة الجبل الذي أضللته ** بالأمس بين غياطل وجبال

لم يعطها إلا سليمان وقد ** الربا بموشك الأعجال

رحرحى لسرير ملكك إنه ** كسريره على كل حد عال

فلو البحار السبعة استهوينه ** وأمرتهن قذفنه في الحال

ولما فتح الحصن كان معه ولد معين الدين أنز الذي سلم بانياس إلى الفرنج، فقال له: للمسلمين بهذا الفتح فرحة واحدة، ولك فرحتان؛ فقال: كيف ذاك؟ قال: لأن اليوم برد الله جلد والدك من نار جهنم.

.ذكر أخذ الأتراك غزنة من ملكشاه وعوده إليها:

في هذه السنة قصد بلاد غزنة الأتراك المعروفون بغز ونهبوها وخربوها، وقصدوا غزنة وبها صاحبها ملكشاه بن خسروشاه المحمودي، فعلم أنه لا طاقة له بهم، ففارقها وسار إلى مدينة لهاور، وملك الغز مدينة غزنة، وكان القيم بأمرهم أمير اسمه زنكي بن علي بن خليفة الشيباني؛ ثم إن صاحبها ملكشاه جمع وعاد إلى غزنة، ففارقها زنكي وعاد ملكها ملكشاه ودخلهافي جمادى الآخرة سنة تسع وخمسين وخمسمائة وتمكن من دار ملكه.

.ذكر وفاة جمال الدين الوزير وشيء من سيرته:

في هذه السنة توفي جمال الدين أبو جعفر محمد بن علي بن أبي منصور الأصفهاني، وزير قطب الدين، صاحب الموصل، في شعبان مقبوضاً، وكان قد قبض عليه سنة ثمان وخمسين، فبقي في الحبس نحو سنة، حكى لي أنسان صوفي يقال له أبو القاسم كان مختصاً بخدمته في الحبس قال: لم يزل محبوساً في محبسه بأمر آخرته،وكان يقول: كنت أخشى أن أنقل من الدست إلى القبر؛ فلما مرض قال لي في بعض الأيام: يا أبا القاسم! إذا جاء طائر أبيض إلى الدار فعرفني. قال: فقلت في نفسي قد اختلط عقله؛ فلما كان الغد أكثر السؤال عنه، وإذا طائر أبيض لم أرى مثله قد سقط، فقلت: جاء الطائر؛ فاستبشر ثم قال: جاء الحق؛ وأقبل على الشهادة وذكر الله تعالى، إلى أن توفي فلما توفي طار ذلك الطائر، فعلمت أنه رأى شيئاً في معناه.
ودفن بالموصل عند فتح الكرامي، رحمة الله عليهما، نحو سنة، ثم نقل إلى المدينة فدفن بالقرب من حرم النبي صلى الله عليه وسلم، في رباط بناه لنفسه هناك، وقال لأبي القاسم: بيني وبين أسد الدين شيركوه عهد، من مات منا قبل صاحبه حمله إلى المدينة النبوية فدفنه بها في التربة التي عملها، فإذا أنا مت فامض إليه وذكره؛ فلما توفي سار أبا القاسم إلى شيركوه في المعنى، فقال له: شيركوه: كم تريد؟ فقال: أريد أجرة جمل يحمله وجمل يحملني وزادي؛ فانتهره وقال: مثل جمال الدين يحمل هكذا إلى مكة! وأعطاه مالاً صالحاً ليحمل معه جماعة يحجون عن جمال الدين، وجماعة يقرأون عليه بين يدي تابوته إذا حمل، وإذا نزل عن الجمل؛ وإذا وصل مدينة يدخل أولئك القراء ينادون للصلاة عليه، فيصلى عليه من كل بلدة يجتاز بها، وأعطاه أيضاً مالاً للصدقة عنه، فصلي عليه في تكريت وبغداد والحلة، وفيد مكة والمدينة، وكان يجتمع له في كل بلد من الخلق ما لا يحصى، ولما أرادوا الصلاة عليه بالجلة صعد شاب على موضع مرتفع وأنشد بأعلى صوته:
سرى نعشه فوق الرقاب وطالما ** سرى جوده فوق الركاب ونائله

يمر على الوادي فتثني رماله ** عليه وبالنادي فتثني أرامله

فلم نر باكياً أكثر من ذلك اليوم، ثم وصلوا به إلى مكة فطافوا به حول الكعبة، وصلوا عليه بالحرم الشريف؛ وبين قبره وقبر النبي، صلى الله عليه وسلم، نحو خمسة عشر ذراعاً.
وأما سيرته فكان رحمه الله، أسخى الناس، وأكثرهم بذلاً للمال، رحيماً بالخلق، متعطفاً عليهم، عادلاً فيهم؛ فمن أعماله الحسنة أنه جدد بناء مسجد الخيف بمنى، وغرم عليه أموالاً جسيمة، وبنى الحجر بجانب الكعبة، وزخرف الكعبة وذهبها، وعملها بالرخام؛ ولما أراد ذلك أرسل إلى المقتفي لأمر الله هدية جليلة، وطلب منه ذلك، وأرسل إلى الأمير عيسى أمير مكة هدية كثيرة، وخلعاً سنية، منها عمامة مشتراها ثلاثمائة دينار، حتى مكنه من ذلك.وعمر أيضاً المسجد الذي على جبل عرفات والدرج التي يصعد فيها إليه، وكان الناس يلقون شدة في صعودهم، وعمل بعرفات أيضاً مصانع للماء، وأجرى الماء إليها من نعمان في طرق معمولة تحت الأرض، فخرج عليها مال كثير. وكان يجري الماء في المانع كل سنة أيام عرفات؛ وبنى سوراً على مدينة النبي، صلى الله عليه وسلم، وعلى فيد، وبنى لها أيضاً فصيلاً.
وكان يخرج من باب داره، كل يوم، للصعاليك والفقراء مائة دينار أميري، هذا سوى الإدارات والتعهدات للأئمة والصالحين وأرباب البيوتات.
ومن أبنيته العجيبة التي لم ير الناس مثلها الجسر الذي بناه على دجلة عند جزيرة ابن عمر بالحجر المنحوت والحديد والرصاص والكلس، فقبض قبل أن يفرغ؛ وبنى عندها أيضاً جسراً كذلك على النهر المعروف بالارباد، وبنى الربط، وقصده الناس من أقطار الأرض، ويكفيه أن ابن الخجندي رئيس أصحاب الشافعي بأصفهان، قصده وابن الكافي قاضي قضاة همذان، فاخرج عليهما مالاً عظيماً، وكانت صدقاته وصلاته من أقاصي خراسان إلى حدود اليمن.
وكان يشتري الأسرى كل سنة بعشرة آلاف دينار، هذا من الشام حسب، سوى ما يشتري من الكرج.
حكى لي وادي عنه قال: كثيراً ما كنت أرى جمال الدين، إذا قدم إليه الطعام، يأخذ منه ومن الحلوى ويتركه في خبز بين يديه، فكنت أنا ومن يراه يظن أنه يحمله إلى أم ولده علي، فاتفق أنه في بعض السنين جاء إلى الجزيرة مع قطب الدين، وكنت أتولى ديوانها، وحمل جاريته أم ولده إلى داري لتدخل الحمام، فبقيت في الدار أياماً، فبينما أنا عنده في الخيام وقد أكل الطعام، فعل كما كان يفعل ثم تفرق الناس، فقمت، فقال: اقعد. فقعدت، فلما خلا المكان قال لي: قد آثرتك اليوم على نفسي، فإنني في الخيام ما يمكنني أن أفعل ما كنت أفعله؛ خذ هذا الخبز واحمله أنت في كمك في هذا المنديل، واترك الحماقة من رأسك، وعد إلى بيتك، فإذا رأيت في طريقك فقيراً يقع في نفسك أنه مستحق فاقعد أنت بنفسك وأطعمه هذا الطعام. قال: ففعلت ذلك. وكان معي جمع كثير، ففرقتهم في الطريق لئلا يروني أفعل ذلك، وبقيت في غلماني، فرأيت في موضع إنساناً أعمى، وعنده أولاده وزوجته، وهم من الفقر في حال شديد، فنزلت عن دابتي إليهم، وأخرجت الطعام وأطعمتهم إياه، وقلت للرجل: تجيء غداً بكرة إلى دار فلان، أعني داري، ولم أعرفه نفسي، فإنني أخذ لك من صدقة جمال الدين شيئاً؛ ثم ركبت إليه العصر، فلما رآني قال: ما الذي فعلت في الذي قلت لك؟ فأخذت أذكر له شيئاً يتعلق بدولتهم؛ فقال: ليس عن هذا أسألك إنما أسألك عن الطعام الذي سلمته إليك؛ فذكرت له الحال، ففرح ثم قال: بقي أنك لو قلت للرجل يجيء إليك هو وأهله فتكسوهم وتعطيهم دنانير،وتجري لهم كل شهر ديناراً. قال: فقلت له: قد قلت للرجل حتى بجيء إلي؛ فازداد فرحاً، وفعلت بالرجل ما قال، ولم يزل يصل إليه رسمه حتى قبض. وله من هذا كثير، فمن ذلك أنه تصدق بثيابه من على بدنه في بعض السنين التي تعذرت الأقوات فيها.